في قراءتنا للسيرة والسنة يجب علينا أن نلتمس الأحداث الحياتية، وأن نأخذ منها المنهج الضابط لمراد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتأتى هذا بتتبع القضايا، وما ورد فيها من حيثيات تمكننا من الغوص وراءها واستخراج منهجها، والقيام بالتحليل المناسب في هذا الشأن.
صلح الحديبية
ونضرب هنا مثالا ليكون نبراسا لغيره، وهو ما حدث في صلح الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ؛ ففي البخاري حديث طويل عمّا حدث في الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسولَي قريش عروة بن مسعود وسهيل بن عمرو، إلى أن وقّعوا اتفاق الحديبية، وبالإضافة إلى ما يمكن أن نستنبطه من نص هذا الحديث الطويل من أدب التفاوض، إلا أننا نريد أن نقرأه قراءة أخرى. وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة شعر بخطر داهم من الشمال يكمن في خيبر، حيث اليهود يتربصون به، وخطر داهم من جهة الجنوب يكمن في مشركي مكة، وأن هناك اتفاقا سرّيّا بين اليهود والمشركين في الهجوم على المدينة مرة واحدة من الشمال والجنوب حتى يعجز المسلمون عن الدفاع عن أنفسهم، ويجتاح هؤلاء المدينة مرة واحدة، فتنتهي الدعوة وينتهي الأمر.
والحنكة السياسية هنا تكمن في العمل على فك هذه الكمّاشة -إن صحّ التعبير- فرأينا النبي صلى الله عليه وسلم بتفاوض الحديبية قد حيّد طرف مكة، وخرج من المدينة بعد ذلك إلى خيبر من أجل فك الطرف الآخر من هذه الكماشة العسكرية، فقد كانت خيبر -وهي لفظ عبري على الأغلب- تعني القلعة، وكان اليهود قد شيّدوا قلاعا عديدة ومُحْكمة يوجد آثار بعضها حتى الآن. وحين أُجلي بنو النضير من المدينة أقاموا بخيبر، وأخذوا يثيرون العرب جميعا ضد الإسلام، بل إن غزوة الأحزاب كانت أول مظهر لهذا الإثارة.
وزادت من خطورة خيبر مجاورة قبيلة غطفان لها، وهي من أكبر قبائل العرب نفوذا وسطوة، ولقد ورد أن أبا رافع سلام بن أبي الحقيق ذهب إلى تلك القبيلة وما حولها من القبائل للتحريض على مناهضة الإسلام، بل تعدّى الأمر إلى إعداد جيش جرار للهجوم على المدينة. وعلى ذلك فإن خيبر تعد أول غزوة لم تكن دفاعا فقط كما كانت كل الغزوات، بل إنها ضربة وقائية، وهي نوع من أنواع الدفاع إلا أنه دفاع استباقي، وليس هجوما مجردا من أجل الأرض أو من أجل الاحتلال.
عندما فتحت خيبر وانكسرت تلك الخطورة الشمالية، وحدث أن أخلّت مكة بعهدها ونقضته -كما هو معلوم في السيرة- تم فتح مكة في رمضان سنة 8 هـ، فانتهت بذلك الخطورةُ الجنوبية.
إن هذا الدرس وهذا التحليل يعلمنا كيفية التفاوض، وتحديد الأهداف الإستراتيجية، وترتيب الأولويات، وأنّ صلح الحديبية لم يكن من قبيل قبول الدنية في ديننا -كما خطر على ذهن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ولم يكن من قبيل المهادنة، ولا القبول بالشروط المجحفة، بقدر ما كان طريقة واقعية للحماية والاستمرار والدوام.
الاهتمام بالأطفال وملاطفتهم
وإذا نظرنا إلى مثال آخر نقرأ فيه السيرة النبوية المطهرة، ونجمع فيه أطراف قضية بعينها من أجل أن نستخرج موقف النبي صلى الله عليه وسلم منها حتى نتأسى بهديه الشريف، فليكن مثالنا الثاني هو عن "الطفولة" وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معها؛ حتى إننا إذا تأملنا فيما ورد في هذا الشأن استطعنا أن نخرج بقاعدة كلية تقول: "إن الطفولة توقف الأحكام"، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربّي الأطفال بالحنان والحب والتوجيه السليم، فطالما كان يحمل أحفاده الحسن والحسين وأمامة حتى في الصلاة، وينـزل من على المنبر رحمة بهم.
بل نستطيع أن نقول إن الحياة النبوية -عبادةً وعادةً- كانت تتوقف أمام الطفولة؛ فيسرع صلى الله عليه وسلم في الصلاة عند سماع بكاء الصغير، ويطيل السجود حتى ينتهي الحفيد من على ظهره وهو ساجد، وينـزل من المنبر في وسط الخطبة ليأخذ الحسن أو الحسين في حضنه لمّا رآه يحبو. وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة.
نذكر منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذا رفيقا ووضعهما في الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه. يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردّهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: "الحقا بأمّكما" فمكث ضوءها حتى دخلا (رواه الإمام أحمد).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيجيء الحسن والحسين فيركب ظهره فيطيل السجود فيقال: يا نبيّ الله، أطلتَ السجود، فيقول :"ارتحلني ابني فكرهت أن أعجله" (رواه أبو يعلى).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمّه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة" (رواه مسلم).
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي [وأنا صغيرة]، وعليّ قميص أصفر، فقال رسول الله: "سنه سنه" -قال عبد الله وهي بالحبشية: حسنة-. قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله (رواه البخاري).
العدل بين الأولاد
ولما كان للعرب من ميراث جاهلي بتفضيل الذكور على الإناث اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بالطفلة الأنثى، وحث على المساواة بينها وبين الذكر، فمِن ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو"، وضم أصابعه (رواه مسلم). وفي نَهْيه عن تفضيل الذكر على الأنثى في التربية والعناية فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أنثى فلم يئِدها ولم يؤْثِر ولده -يعني الذكور عليها- أدخله الله الجنة" (رواه أحمد وأبو داود).
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء ابن له فقبّله وأجلسه في حجره، ثم جاءت ***ه، فأخذها فأجلسها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما عدلتَ بينهما" (رواه البيهقي).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبيّ فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه" (رواه البخاري).
فكان صلى الله عليه وسلم يلاعب الأطفال ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبّلهم ويضاحكهم؛ فعن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد دُعينا إلى طعام، فإذا الحسين بن عليّ رضي الله عنهما يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفر ههنا ويفر ههنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلحقه ويضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والآخرى في رأسه ثم اعتنقه، ثم أقبل علينا وقال: "حسين منّي وأنا من حسين" (رواه البخاري في الأدب).
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن بن علي فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟ فقال رسول الله: "نعم"، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت واحدا منهم قطّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يَرحم لا يُرحم" (متفق عليه).
وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامة ***َ زينب ***ِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس: فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها (متفق عليه).
وعن أبي بريدة رضي الله عنه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، إذ جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه" (رواه أحمد والترمذي).
وكان صلى الله عليه وسلم يعلّم الأطفال -برفقٍ- آدابَ الطعام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت غلاما في حِجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدِي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سمّ الله، وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يَليك"، فما زالتْ تلك طعمتي بعد (رواه البخاري).
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال ويواسيهم بكلمات رقيقة؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلُقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، وكان إذا جاء قال: "يا أبا عُمير ما فعل النُّغَير؟". والنغير طائر صغير كان يلعب به هذا الطفل، وذلك لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حزينا، لأن النغير مات، فجلس صلى الله عليه وسلم يداعبه ويواسيه (متفق عليه).
تربية الأطفال منذ الصغر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على تعليم الأطفال الصدق من صغرهم، وذلك بأنه كان ينهي الكبير أن يكذب عليهم حتى لا يتعوّدوا على الكذب، وذلك لِما في الكذب من آثار سيّئة أقلُّ ما فيها أنها تفقد الطفل الثقة في أبَوَيه إن هما كذبا عليه؛ فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعَتني أمّي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أُعطيك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "ما أردتِ أن تعطيه؟" قالت: أعطيه تَمرا، فقال لها: "أما أنّكِ لو لم تعطيه شيئا كُتبت عليك كذبة" (رواه أحمد وأبو داود).
فإذا انضمّ إلى ذلك ما أمر به الإسلام بشأن الطفولة من تحريم الزنا من أجل الحفاظ على الطفولة ونسل الأبناء، وجعل الحفاظ على النسل من الضروريات الخمس التي على أساسها بني التشريع الإسلامي، كما أنه خفف على المرأة الحامل والمرضع، وذلك حتى يَقوما بتغذية الطفل وهو وليد ومن قبل ذلك وهو جنين رعاية له، واهتماما به.
كما أن الإسلام حرم الإجهاض لحفظ حياة الطفل المرتقب، وعدَّ ذلك جناية توجب العقوبة، وكذلك أحكام الحضانة في حالة الفصال الأبوي، كانت كلها لصالح الطفولة، وإيجاب النفقة والكسوة على الآباء في صالح الطفولة، واستحباب اختيار الاسم الحسَن، فمِن حقّ الابن على أبيه أن يختار له اسما حسنا.
ومن قبل ذلك حثّ الإسلام على اختيار الزوجة الصالحة من الرجل، واختيار الرجل الصالح من المرأة. كل ذلك من أجل أن ينشأ الطفل في بيئة صالحة عناية له؛ فمرحلة الطفولة من أهمّ مراحل الإنسان وأخطرها شأنا، إذ هي مرحلة النّقش، ومرحلة الغَرس، فستكون الصورة على ما نُقشت، ويكون الزّرع على ما غرس.
وفي القرآن مجموعة من السلوكيات الرشيدة تبدأ من العقيدة، وبِرّ الوالدين، وتنتهي بالسلوك بين الناس، وذلك في نصيحة لُقمان الحكيم لابنه في سورة سمّيت باسم لقمان، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(لقمان:13-19).
لعل في مثال صلح الحديبية، ومثال تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال كثيرا من الدروس، ولعلّنا قد وُفقنا في الإشارة إلى بعض منها، رزقنا الله الفهم عنه سبحانه، وفهم سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك.