بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما وأرنا الحق حقاً وارزقنــا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، وصلى الله على نبيه وآله وصحبه وسلم .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثاني والتسعين من دروس مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، والحديث اليوم عن عبادة القلب .
لا شك أن عبادة الظاهر يعرفها معظم الناس ، و هي موضوع دروس كثيرة في أكثر المساجد ولكن عبادة القلب مهمة جدا ، لأنه إذا استقام القلب استقامت الجـوارح ، لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولأن الله عزوجل يقول :
[سورة الشعراء]
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ *
[رواه البخاري]
عبادة القلب ، وننطلق من قوله تعالى :
[سورة الزمر]
اعبد الله في أعضائك و جوارحك و كسب مالك و إنفاق مالك و تربية أولادك و علاقاتك و في أفراحك و أتراحك و في حلك و ترحالك الظاهر، اعبد الله مخلصا ، و الإخلاص عبادة القلب .
قال : هناك عبادة واجبة ، فالمتفق على وجوبه الإخلاص ، و التوكل و المحبة و الصبر والإنابة والخوف و الرجاء و التصديق الجازم والنية في العبادة ، هذه واجبات عبادة القلب ، لابد من أن تكون مخلصا ، ولا بد من أن تتوكل على الله ، ولا بد من أن تحب الله وأن تصبر على قضائه وقدره وأن تنيب إليه و أن تخاف منه وأن ترجو رحمته و أن تصدق بكلامه و كلام أنبيائه ، أن تنوي في العبادة التقرب إليه ، لئلا تكون العبادة عادة .
الحقيقة الإخلاص شيء و النية في العبادة شيء آخر ، نية العبادة تفرِّقها عن العادة ، الإنسان حينما يألف العبادات يفعلها وكأنها عادات ، يفعلها و يتأثر بها ، يفعلها و لا يرقى بها ، فإذا نوى في عباداته التقرب إلى الله عزوجل تكون هذه العبادة كاملة ، بل إن بعض الناس يقول لك : الصلاة رياضة والصيام صحة ، هذا كلام خطير ، لو أنك انبعثت إلى الصلاة من أجل صحة جسدك ، إذا ليست هي عبادة ، حينما تصلي هناك نتائج إيجابيية كبيرة جدا من الصلاة ، أما حينما تنوي بالصلاة لتروِّض جسمك فجعلتها عادة ، و لم تجعلها عبادة ، النية مطلوبة ، لذلك علماء العقيدة و الفقهاء رجّحوا أن تتلفظ بالنية ، مع أنها من عمل القلب ، و لكن التلفظ بها يذكِّرك بهذه النية ، بل إن السلف الصالح - هل تصدقون - كان أحدهم إذا فتح دكانه يقول : نويت خدمة المسلمين ، انقلبت تجارته إلى عبادة ، طبيب دخل إلى عيادته إذا قال : يا ربِّ وفِّقني لمعالجة هؤلاء المسلمين وشفائهم من أمراضهم و تقريبهم منك ، كأنه يصلي في عيادته ، لو محامٍ دخل إلى مكتبه فقال : يا ربي هيِّئ لي إنسانا مظلوما يكون صادقا معي ، و أبعدْ عني الإنسان الظالم الذي يريد أن يستخدم علمي ليأخذ ما ليس له هذا المحامي مكتبه أصبح مسجداً ، أصبحت حرفته عبادة ، لو مدرس لم يربط بين دخله القليل و بين تعليم الطلاب ، أي لم يعلِّمهم على قدر معاشه ، نوى بحرفته خدمة المسلمين ، و تعليم أبنائهم ، و أن يكون قدوة لهم ، أصبح تدريسه عبادة ، تاجر جاء ببضاعة جيدة و سعّرها بسعر معتدل و نوى بها خدمة المسلمين ، أصبحت تجارته عبادة ، المنافق عبادته عادات لا قيمة لها و المؤمن عاداته عبادات فلذلك كي نميز العبادة عن العادة لا بد من النية ، أنوي أن أصوم رمضان تقربا إلى الله عزوجل ، أنا أصلي لأن الله أمرني بالصلاة ، لا أفكر أبدا أن هذه الصلاة تريِّض جسمي و تخفف وزني و تنشطني هذا بحث آخر .
هناك إخلاص و هناك صدق ، الإخلاص ألاّ يكون المطلوب منقسما ، أي مطلوبك ليس مع جهات ، أنت ترضي زيدا و عبيدا و فلانا و علانا و ترضي الله ، لست مخلصا ، ينبغي أن يكون المطلوب واحداً هو الله ، إلهي أنت مقصودي و رضاك مطلوبي ، أما فلان له عليّ يد ، يجب أن أرضيه ، وفلان قوي أحتاجه في المستقبل ، سأزوره ، فالمقصود متعدِّد ، فلست مخلصا ، أما المؤمن فمقصوده هو الله وحده ، لا إله غيره ، هذا الإخلاص عدم انقسام المطلوب ، أما الصدق عدم انقسام الطلب ، طالب الآخرة و طالب الدنيا ، و طالب الراحة و طالب السمعة و طالب المجد ، فالطلب انقسم ، فالصدق عدم انقسام الطلب ، أما الإخلاص عدم انقسام المطلوب .
الواجبات القلبية هي الإخلاص و التوكل و المحبـة والصبر و الإنابـة الرجاء و التصديق الجازم و النية في العبادة ، نحن ألِفنا أن نفعل واجبات الجسد ، و قد يضيق قلبنا ، قد لا نسعد ببعض عباداتنا لأننا أهملنا عبادة القلب ، طبيعة الحياة المعاصرة فيها أخطار صحية ، وهناك تلوث عام هناك أخطار السير ، هناك أخطار أن تُتهم بتهمة أنت بريء منها ، هناك سيوف مسلّطة على الإنسان هكذا شاءت حكمة الواحد الديّان ، فالتوكل يريحك من هذا الضغط ، إذا أردت أن تعدِّد الأخطار التي تحدق بالإنسان لا تُعد و لا تُحصى أبسطها عامل بمطعم من أرقى المطاعم ، من أنظف المطاعم عنده موظف يحمل فيروس التهاب الكبد الوبائي ، هذا مرض قاتل ، و يكفي ألا يبالغ في تغسيل يديه عقب دخوله للحمام حتى يصيب ثلاثمائة إنسان من رواد هذا المطعم بمرض التهاب الكبد الوبائي دخلت مطعما و أكلت طعاما حلالا و دفعت ثمنه من كسبك الحلال ، فهذا خطر ، الأخطار التي تهدد الإنسان لا سيما في هذا العصر لا تعد و لا تحصى ، دخل إلى الحمام و في أرض الحمام ماء و لم يلبس حذاء ، و مسك التيار الكهربائي يموت فوراً ، فهناك أخطار كبيرة جداً ، كيف نسعد مع هذه الأخطار ؟ بالتوكل ، الأمر بيد الله ، أنا آخذ بالأسباب و انتهى الأمر ، وعلى الله الباقي .
الصبر مثلا من عبادت القلب ، أخ كريم سألني : إذا أصيب إنسان بمصيبة و تألم منها ، هل هذا الألم يلغي صبره ؟ قلت له : لا ، نحن بشر ، و تجري علينا كل خصائص البشر ، فالإنسان إذا فقد ابنه يتألم ألما شديدا ، وهذا الألم لا يلغي صبره ، ذلك لأن النبي عليه الصلاة و السلام حينما مات ابنه بكى ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ *
[رواه البخاري]
فالإنسان قد يتألم لضيق مادي ، و قد يتألم لمرض مؤلم ، و قد يتألم لولد فقده ، هذا الألم لا يلغي الصبر ، أما الصبر أن تقول : الحمد لله رب العالمين .
الإمام أحمد يقول : ذُكر الصبر في تسعين موضعا في القرآن و أعظم آية تبين منزلة الصبر عند الله قوله تعالى :
[سورة الزمر]
و هناك آية كريمة يقرأها الإنسان يقشعر جلده ، لما ربنا قال :
[سورة ص]
إنسان يصاب بمصيبة يشكو و يبكي و يصيح و يتشكى و يتبرم ، و إنسان آخر مصيبته أشد وأقوى تراه ساكتا ، أخ طبيب حدثني عن قصة مستشفى دخله مريض معه ورم خبيث في أمعائه ، يبدو مؤمنا ، قال لي: عجيب ، كلما دخل عليه زائر يقول له : اشهد أني راض عن الله ، يا ربي لك الحمد قال لي : وجهه منير ، لايتبرم ولا يسخط يتهافت الأطباء إلى خدمته ، ما من واحد دخل إلى غرفته إلا و شعر بالراحة ، رائحة الغرفة عطرة ، كلامه طيب ، مستبشر ، و بعد يومين توفاه الله عز وجل على أحلى حال ، لحكمة بالغة بالغة أرادها الله عزوجل جاء بعده مريض لهذه الغرفة مصاب بالمرض نفسه ، سباب شتام ، وجه أسود مكفهر ، نفسية غريبة جدا ، كلام قاس ، كلام كفر ، لا أحد يدخل عليه ، من شدة رائحة غرفته التي لا تقابل ، و بعد يومين توفي المريض ، فالأطباء في المستشفى و الممرضون رأوا نموذجين لمرض واحد، و هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ *
[رواه مسلم]
وليس ذلك لغير المؤمن ، فللصبر في القرآن الكريم تسعون موضعا .
لكن هناك صبر جميل ،